الدوحة في 30 نوفمبر /قنا/ من المنتظر أن يطلق عهد ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني حقبة مختلفة في السياسة الخارجية، حيث سيتابع سوناك على الأرجح جزءا كبيرا من السياسات السابقة لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تراس، التي لم تمكث في الحكم إلا 44 يوما فقط، لكن ستكون السياسة الخارجية في عهده مختلفة بالكامل عن التوجهات الماضية، وقد يتعلق أبرز اختلاف بوضع حد لفكرة "العصر الذهبي" مع الصين.
وقال سوناك أمس الثلاثاء إن ما يسمى "بالعصر الذهبي" للعلاقات مع الصين انتهى، متعهدا "بتطوير" موقف بلاده من بكين، ووصف، في أول خطاب له عن السياسة الخارجية للبلاد، العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع الصين بأنها كانت "ساذجة".. وأكد أن المملكة المتحدة تحتاج في الوقت الراهن إلى استبدال الفكر الحالم "ببراغماتية قوية" في علاقتها مع المنافسين، لكنه حذر من "خطاب الحرب الباردة"، مشددا على أن الأهمية العالمية للصين لا يمكن تجاهلها.
وتتشابه تصريحات سوناك أمس بالنهج الذي كانت تعتزم رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تراس اتباعه، فقد كانت تعتزم إعادة تصنيف الصين لتكون "تهديدا" للمملكة المتحدة في إطار مراجعة حكومتها للعلاقات الخارجية لبريطانيا، وردد سوناك، في حديثه العبارات التي استخدمت في مراجعة تراس للعلاقات الخارجية البريطانية والتي تشير إلى أن الصين تشكل "تحديا نظاميا". وذكر أيضا أن العام المقبل سوف يشهد المزيد من تفاصيل هذه المراجعة.
وبتلك التصريحات أيضا، قد يبدأ منحنى العصر الذهبي للعلاقات البريطانية الصينية في الاتجاه للأسفل، لتنتهي بذلك الأيام التي حرصت فيها بريطانيا على استكشاف الطرق التي تسمح لها بتقوية علاقاتها الاقتصادية مع الصين، ففي عهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، الذي أعلن نفسه مؤيدا للصين، اعتبرت الحكومة البريطانية خلال فترة معينة بكين شريكا أساسيا قد يصبح بديلا عن الاتحاد الأوروبي، وقامت باستثمارات خارجية كبرى في حقبة ما بعد"بريكست"، لكن حين بدأت بكين تطلق حملات ضد هونغ كونغ وحصل شرخ في علاقاتها مع لندن، تلاشت تلك الآمال سريعا واستبدلت بتشكيك علني ببكين في عهد ريشي سوناك، حتى أن رئيس الوزراء الجديد أعلن صراحة أن الصين تشكل "تهديدا" على المملكة المتحدة.
ومن المتوقع أن يبذل ريشي سوناك قصارى جهده لتقليص وجود الشركات الصينية في قطاعات أساسية، ولإبقاء الشركات الناشطة في أهم المجالات بيد أصحابها البريطانيين، فقد سبق أن تعهدت الحكومة السابقة بحظر التطبيق الصيني "تيك توك" ومنافسيه، ودعت بريطانيا إلى الحد من كمية الصادرات التكنولوجية إلى "الأنظمة الاستبدادية".
وفي ذات السياق، استبعدت المملكة المتحدة، شركة "سي جي إن" النووية الصينية من مشروع محطة "سايزويل سي" النووية للطاقة، التي ستبنيها تاليا مع الشريك المتبقي مجموعة "إي دي أف" الفرنسية. وجاء الإعلان غداة تحذير من رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، من أن "العصر الذهبي" للعلاقات البريطانية الصينية "انتهى"، مشددا على أن بكين تشكل "تحديا نظاميا" لمصالح المملكة المتحدة وقيمها.
وستضطر الشركة الصينية إلى التخلي عن حصتها البالغة 20 بالمئة في المشروع، وتنوي المملكة المتحدة استثمار 700 مليون جنيه إسترليني "843 مليون دولار" في مقابل المبلغ نفسه من جانب"إي دي أف" EDF في هذا المشروع المشترك.
وسايزويل سي يطور على ساحل سافوك في شرق إنجلترا وسيتمكن من توفير الطاقة لستة ملايين منزل تقريبا، وأوضحت لندن أن المشروع سيبدأ إنتاج الكهرباء اعتبارا من 2035. وتعتبر الطاقة النووية والمتجددة مثل طاقة الرياح في عرض البحار، أساسية لتعزيز أمن الطاقة في المملكة المتحدة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية.
ويثير القرار بشأن سايزويل تساؤلات حول مشاركة المجموعة الصينية نفسها إلى جانب "إي دي أف" في بناء محطة هنيكلي بوينت النووية في جنوب غربي إنجلترا، وهي أول مصنع نووي في أكثر من عقدين في البلاد.
وقالت وزارة الأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية ببريطانيا في بيان، إن استثمار الحكومة البريطانية في "سايزويل" سيؤمن استمرار تطوير المشروع، وقالت المملكة المتحدة إن سايزويل سيوفر طاقة أنظف من المصادر الأحفورية، فضلا عن آلاف فرص العمل محليا وعلى صعيد الاقتصاد الوطني.
وفي شأن متصل استدعت بريطانيا، السفير الصيني لدى لندن للاعتراض على توقيف صحفي في "بي بي سي" كان يغطي الاحتجاجات المرتبطة بقيود "كوفيدـ19" والاعتداء المفترض عليه، وفق ما ذكرته مصادر حكومية. واستدعي جينغ زيغوانغ إلى وزارة الخارجية بعد الحادثة المرتبطة بالصحفي إد لورنس في شنغهاي، والتي وصفها وزير الخارجية جيمس كليفرلي أمس الأول الإثنين بأنها "مقلقة للغاية".
ومن المنتظر أن يدفع أعضاء البرلمان ريشي سوناك إلى خوض مواجهة مباشرة مع الصين في نهاية المطاف.
ويرى مراقبون سياسيون أنه يتعين على ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني أن ينقل رؤيته حول الصين بطريقة قادرة على إقناع أكثر الأصوات تأثيرا وصدامية في البرلمان، وذلك لتأجيل أي صراع داخلي مستقبلي، مضيفين أنه قد تتضح قدرة سوناك على التحكم بالمعارضين في البرلمان، إذا نجح في إقناع لجنة الشؤون الخارجية البريطانية بأن حكومته تعمل على تنفيذ رؤيته في مجال السياسة الخارجية.
وتابع المراقبون أنه يفترض أن يستنتج ريشي سوناك قريبا أن اعتبار الصين مصدر تهديد، والتعهد بإحداث تغيير حقيقي، مسألة مختلفة عن تنفيذ رؤية استراتيجية، تزامنا مع تصاعد الضغوط الاقتصادية، وتمرد أعضاء البرلمان، ما قد يتطلب التحكم بالعلاقات المعقدة بين المحافظين الذين يحملون وجهات نظر متضاربة، لكن السيطرة على علاقات تزداد اضطرابا مع قوة عالمية عظمى، تستلزم جهودا من نوع آخر.
ولم يكن الخلاف البريطاني الصيني حديث العهد، بل هو ممتد منذ عقود، وله مؤشرات ودلالات عديدة.. حيث أكد كين ماكالوم مدير عام جهاز الاستخبارات البريطاني "إم آي5" أن الجهاز ضاعف عمله ضد النشاط الصيني خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وقد يفعل ذلك مجددا، ويعكف جهاز الاستخبارات البريطاني في الوقت الراهن على إجراء تحقيقات تتعلق بأنشطة الحزب الشيوعي الصيني، تعادل سبعة أمثال التحقيقات التي أجراها في الشأن ذاته عام 2018.
كما حذر ماكالوم من مغبة "استيلاء الصين على تايوان"، لا سيما على الصعيد الاقتصادي العالمي، وقال إن آثار ذلك ستفوق آثار ما يشهده العام الجاري، لافتا إلى الاستثمارات الغربية في الصين، والتي ستحتجز، فضلا عن تعطل سلاسل الإمداد.
ورغم المؤشرات السابقة، الدالة على تغير السياسة البريطانية تجاه الصين، يبقى أمر مهم، وهو ما أشار إليه ريشي سوناك في خطابه أمس، إذ قال "لا يمكن تجاهل الصين على مستوى الشؤون الدولية وأهميتها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي أو بالنسبة لقضايا مثل التغير المناخي".
وقال مراقبون إنه مع هذا التأكيد، الذي يظهر التناقض في حديث رئيس الوزراء البريطاني، وبيانات تقرير صادر عن هيئة التجارة والاستثمار في المملكة المتحدة، يظهر أن الصين نفذت نحو 150 مشروعا استثماريا مباشرا في بريطانيا، وأصبحت الآن رابع أكبر بلد مساهم بالاستثمارات الأجنبية المباشرة في بريطانيا.. فإلى أي المسارات تسير حكومة ريشي سوناك؟.. هل يفي بالعهد الذي قطعه على نفسه، لينهي العصر الذهبي للعلاقات البريطانية الصينية من خلال العمل مع حلفاء، ومنهم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان، من أجل إدارة المنافسة المحتدمة، بما في ذلك المنافسة الدبلوماسية والمشاركة؟.. أم ستحاول جبهات أخرى التصدي لحملته، التي كما يتوقعون، سيكون لها مردود سلبي كبير على بريطانيا داخليا وخارجيا، خاصة أن وجهة النظر هذه يتبناها قطاع لا بأس به من أصحاب النفوذ في بريطانيا، بمن في ذلك أعضاء البرلمان المحافظون ووزراء في حكومة ريشي سوناك نفسه.